نقد جدل السيادة والحاكمية(١).

مثَّلَ مفهوم «السيادة» أحد الحواجز التي حالت دون الإسلام السياسي واستيعاب الديمقراطية مُعرّفةً بسيادة الشعب. مثّلَت سيادة الشعب خطاً أحمر عند الإسلام السياسي، الذي تُمثل «السيادة الإلهية» لديه موسومة بـ «الحاكمية» مسألةَ عقيدة دينية، بل وجوهراً لخطابه السياسي، بحيث يفقد تمايزه الإيديولوجي إزاء خصومه إذا تخلّى عنها. وعن ذلك الجوهر، ينبثق البرنامج السياسي الإسلامي مُلخَّصاً في تطبيق الشريعة الإسلامية.لم يقتصر ذلك الطرح على الجناح السلفي للحركة الإسلامية بطيفه الواسع، فالجناح الوسطي منها، ورغم سعيه الحثيث نحو استيعاب الديمقراطية وتضمينها في الخطاب والبرنامج الإسلامي، بقي مُستصحباً حساسيةً إزاء مفهوم سيادة الشعب في الديمقراطية، ومؤكداً أن الديمقراطية المقصودة هي ديمقراطية ملتزمة بالمرجعية الإسلامية.

عبّرَ ذلك المأزق النظري لدى الإسلام السياسي عن استحالة فعلية في نظر نُقّاد الإسلام السياسي من منظري العلمانية العربية، فالتقى الفرقاء على حقيقة واحدة: إن الإسلام السياسي والديمقراطية نقيضان لا يمكن أن يجتمعا نظرياً أو عملياً؛ وإن حدث أن التقيا عملياً، فإن اللقاء يبقى اجتماعاً هشّا ًيوشك أن يتفكك بفعل تملص الإسلام السياسي من الديمقراطية حنثًا بوعوده، أو بدون وعي منه بفعل تجسيده للمرجعية الإسلامية النافية للديمقراطية.

إننا بحاجة إذن إلى إعادة قراءة مفهوم السيادة وموقعه في نظرية القانون والدولة، وكذلك إعادة قراءة مفهوم الحاكمية، لاختبار فرضية التناقض النظري الضروري بين المفهومين أولاً، ثم للنظر في إمكان اجتماعهما (والتمفصل بينهما) تالياً.

إعادة التفكير في مفهوم السيادة

ظهر مفهوم السيادة في الفكر السياسي الحديث على يد جان بودان وتوماس هوبز، للدلالة على الفعل السياسي الذي من خلاله يتأسس القانون الذي يستوي أمامه المواطنون على نحو يضمن تجاوز خلافاتهم الدينية وصراعهم على السلطة، ويضمن وفق ذلك تجانس الكيان السياسي واستقراره. وقد تطور مفهوم السيادة لينتقل بالتدريج عبر لوك وروسو من العاهل الذي كان يجسد السيادة في نظر بودان وهوبز، ليحلّ في الشعب أو في الأمة. تُعرَّف السيادة هنا بوصفها أساس القانون، أي أن القانون يكتسب شرعيته التي يضفيها لاحقاً على الإجراءات من خلال صدوره من قبل السلطة السيادية، فالسيادة هنا مصدر الشرعية. عملياً، يؤدي ذلك المفهوم للسلطة السيادية إلى معضلة تتمثل في تحديد صاحب السيادة وتحديد ما يمنح سلطته شرعية أن تكون سيادية. يستخدم نُقّاد مفهوم السيادة هنا حجة الدوران: تحتاج «الشرعية» القانونية في تأسيسها إلى السيادة، لكن صاحب السيادة أيضاً يحتاج إلى شرعية قانونية حتى يحصل على السيادة. حاول منظرو السيادة الخلاص من نحو ذلك النقد عبر تعريف السيادة بوصفها خاصية إصدار القوانين دون الخضوع لها، ويستخدم بودان هنا تعبير القانونيين الكنسيين: «لا يمكن للبابا أن يقيد يديه»، في إشارة إلى أنه من التناقض أن يتقيد إنسان بما يتصرف فيه بملء حريته. كما أن هوبز يرى أن خضوع السيّد للقانون المدني سيؤدي إلى التسلسل اللانهائي بحثاً عن صاحب القرار الأخير، وهي فرضية ممتنعة، لذلك لا بد ألا يخضع السيّد للقانون.

رأى المنظر القانوني الألماني هانز كلسن أن مفهوم السيادة يُفضي إلى الاستبداد والسلطة المطلقة، مع كونه في الوقت نفسه غير ضروري لتأسيس القانون، فالقانون في نظر كلسن يجب أن يتأسس من داخله بمعزل عن السياسة أو الأخلاق، أي أننا لا يجوز أن نبرر القانون بأنه يتوافق مع القواعد الأخلاقية، أو أنه قانونٌ لكونه نابعاً من إرادة سياسية لديها سلطة سيادية. يُبرَّر القانون بأنه قانون فحسب، وهي الفرضية التي أطلق عليها كلسن «النظرية المحضة للقانون»، أو ما اصطلح على وصفه بـ«الوضعية القانونية».لتأسيس القانون، يطرح كلسن مفهوم «المعيار الأساسي» الذي يفترض أن القانون هو مجموعة من المعايير (القوانين الحاكمة للسلوك الاجتماعي)، تُشتَّقُ من بعضها بحيث أن كل معيار ينبثق عن معايير أعلى وصولاً إلى المعيار الأساسي للنظام القانوني (القواعد الدستورية). يحاول كلسن إذن الانتقال من سيادة الدولة إلى حكم القانون، أي أنه يحاول أن يحوّل السيادة من خاصية لسلطة الدولة إلى خاصية للقانون نفسه.

يواجه طرح كلسن معضلتين تنبعان من إغفاله البعد السياسي للقانون. الأولى هي المعضلة النظرية مُحدَّدة في مشكلة «التشريع الأول»، فإذا كانت المعايير التي تمنحنا شرعية التشريع تعود إلى معايير أعلى وصولاً إلى المعيار الأساسي، فمن الذي وضع المعيار الأساسي؟ أو كيف حاز المعيار الأساسي شرعيته؟ لقد أدت تلك المعضلة بكلسن إلى افتراض أزلية النظام القانوني للدولة وفق نظريته عن تماهي الدولة ونظامها القانوني، فالدولة في نظر كلسن ما هي إلا نظامها القانوني الذي يؤسس هو لسلطتها عبر منحها الشرعية، إذ أن محض ممارسة القوة والعنف دون شرعنة قانونية لا يخلق دولة. النظام القانوني في نظر كلسن أزلي بأزلية الدولة، ويمكننا التغاضي عن لحظة التأسيس وحجبها. ولكن وفق ذلك، يضطر كلسن من أجل المحافظة على اتساقه إلى إنكار واقعة تغيّر الأنظمة القانونية من خلال الفاعلية السياسية عبر الثورة أو انقلاب الدولة أو حتى الديمقراطية، مع بقاء الكيان السياسي أو الدولة قائماً، فيضطر إلى ادعاء تواصل النظام القانوني رغم واقع إمكانية تغيره أحياناً بواسطة الفعل السياسي.أما المعضلة العملية، فتتمثل في «الفاعلية القانونية»، أي احتياج الطبيعة الإلزامية للقانون إلى سلطة تجسدها. يذهب كلسن إلى أن القانون نفسه يمتلك تلك الطبيعة، وهو يخلق السلطة التي تحقِّق الإلزام به ويُشرعِنُ العنف الحافظ له؛ غير أن غلبة الطابع النظري الصوري المحض على فكر كلسن تحجب عنه سؤال الفعل: ماذا إذا قررت السلطة بالفعل أن تُلزِم بخلاف القانون؟ أو ماذا إذا تحول العنف الحافظ للقانون إلى عنف صانع للقانون، إذا ما استخدمنا تعبيرات والتر بنيامين؟ إن ما هو في النظرية آنذاك لا ينفي ما هو بالفعل، أي امتلاك العنف خاصية نخر النظام القانوني القائم، والشروع بفرض نظام قانوني جديد، دون حاجة إلى انتظار منحة الشرعية من المعايير القانونية النظرية.لقد كانت غاية كلسن حماية الديمقراطية الليبرالية ومؤسساتها والحقوق الفردية من تسلط الدولة، متمثلة في أجهزتها أو حتى في الأغلبية الشعبية، عبر حكم القانون الذي حلم كلسن أن يمتد وراء سيادة الدولة بحيث تتأسس منظومة قانونية عالمية تخضع الأنظمة القانونية داخل الدول إليها، وقد رأى كلسن إرهاصات حلمه تتحقق عندما حضر الاجتماعات التحضيرية للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو.

تمعن النظرية الليبرالية كما نراها في الوضعية القانونية عند كلسن، في إغفال مركزية السيادة القومية في العلاقات الدولية والسيادة الشعبية في السياسة المحلية؛ وهي ليست مركزية حقوقية نظرية فحسب، يمكن الاحتجاج النظري ضدها بادعاء أولوية المجتمع الدولي على السيادة القومية أو أولوية الحقوق الفردية على السياسة الشعبية، وإنما هي مركزية سياسية فعلية تنبع من قدرة الدولة-الأمة، كما رأينا تاريخياً، على انتزاع سيادتها وزعزعة أي سلام مأمول طالما يهدد ذلك السلام تلك السيادة المستحقّة برأيها، كما تنبع من قدرة السيادة الشعبية في الداخل على النضال في سبيل انتزاع سيادتها الفعلية ضد السلطة ونظامها القانوني.

لمحمود هدهود.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate