الأحداث التالية علي إسقاط نظام بشار الأسد تؤكد صوابية تشخيص الحزب لأزمة الشخص البشري في سورية..افتتاحية العدد

لطالما اتهمت المعارضة السياسية التاريخية لنظام الأسدية و معها عديد النخب السياسية و الثقافية السورية حزب الحداثة بأنه حزب ثقافوي ، يرى الأزمة من زاوية ثقافية ، ويهمل الوجه السياسي لازمة الاستبداد في البلاد ، و لطالما سمع رواد الحزب تعبيرات شفهية او كتابية لكتاب و سياسيين سوريين يتهمون الحزب بأنه يتعالى علي المجتمع السوري ويرميه بسمات لا تمت لواقعه بصلة ، على ان القراءة الدقيقة لتشخيص الحزب أزمة سورية بتلك الجذرية ، انما تؤكد ان تشخيصه كان علميا صارما يقوم على نقد الذات المعرفية ، نقدا لم يتورع عن القول بأن أهل البلاد لا يشكلون مجتمعا بالمعنى الحديث للكلمة ، و أن ذلك الموقف النظري له موجباته الثقافية و السياسية ،فالسوريون بحق يظهرون اثناء تفاعلهم في الحقل السوري العام و كأنهم تجمعات قروسطية ناشزة من قبائل و إثنيات و اديان و مذاهب ولا يشكلون مجتمعا سوريا متوائما و متجانسا ، كيف لا و موقفهم من الاجتماع السياسي السوري لا يتعين إلا تبعا لموقفهم المتعدد و المختلف من السماء ،انهم بهذا المعنى و بحسب التركيبة السوسيولوجية السورية المعقدة ، معرضون لا سيما اثناء ولوج البلاد في مراحل و تقلبات اجتماعية سياسية عنيفة و مفصلية للدخول في صراعات ذات ابعاد طائفية و إثنية و مذهبية يتهدد أثناءها و من خلالها الوجود السوري برمته ، شعبا و دولة و كيانا و هو ما حصل طوال الاربعة عشر سنة الماضية و ما يحدث بشكل أكثر اكتمالا ووضوحا منذ أحداث الساحل و السويداء التي تشهدها سورية هذه الأثناء

ولعل السطور التالية من الادبيات النظرية الواردة في وثائق الحزب أثناء تأسيسه الأول تظهر راهنية قراءة الحزب وتشخيصه و بالتالي صلاحية برنامجه لمعالجة الأزمة السورية العميقة تلك التي تتطلب تجديدا في النظام المعرفي السائد في سورية مع بل و ربما قبل اي شيء آخر .

اليكم هذا الاقتباس من موضوعات الحزب و متنه النظري الذي يوكّد المدخل أعلاه :

((السياسة في فكر حزب الحداثة تجسد عملي و واقعي لما هو ثقافي ومعرفي  و الأزمة السياسية في سورية من هذا المنظور تعكس أزمة نظم معرفية و بنى عقلية على المستوى الاعمق ، يعقد هذه الأزمة أنها أزمة دائرة مغلقة . المعرفي ينتج ما هو سياسي و ما هو سياسي يؤكد و يعيد إنتاج المعرفي الذي أنتجه أصلا و هكذا ، و عبر المثال السوري أنتج المجتمع غير المدني السوري نظامه السياسي الحالي في تعبير عميق عن التناقضات و الأزمات التي تعتمل لديه و محصلة مباشرة لصراعات القوة و تنافرات أطرافها و توازناتها فيه، و بدوره يسعى هذا النظام و لأسباب بنيوية إلى تأبيد الشروط التي أنتجته و ترسيخ بيئة انتاشها فيعمق الأزمة المعرفية في المجتمع و يزيد من حدة تعبيراتها، حماية لمشروطية وجوده هو بالذات . • فحين يكون المجتمع السوري غير مدني الوعي منقسم حول رؤية حدية للنجاة و الحقيقة  لا يعرف التسامح بالمعنى الحديث للكلمة ، و لا يقبل الاختلاف ، و غير قادر على أن ينظر إلى ذاته نظرة موضوعية و تاريخية و إنما أسطورية. يصبح من الطبيعي أن يظل مجتمع طوائف كل منها يمثل الحق و الخير ، و يمتلك ناصية المعرفة الجوهرانية .إن تلك الصورة و بمقدار ما تفسر لجوء النظام إلى اللعب على الوتر الطائفي من أجل ترسيخ سطوته و هيمنته ، تشرح أيضا تأثير المحور الطائفي على الانقسام السياسي للمجتمع و توزيع إراداته و أهدافه السياسية إلى اتجاهات

مختلفة و متناقضة .  و حين يكون المجتمع السوري مجتمع قبائل تغيب فيه قيمة الإنسان و حريته لمصلحة قيم القبيلة ، و تضيق حدود الوطن معه لتصبح على قد القبيلة ، و يصبح الانتماء للوطن انتماءا للقبيلة و إقرارا لمفاهيمها وانتصارا لقراءتها ، تصطدم هواجس الوطن الحديث و علاماته في التنمية و الاقتصاد و الانتماء مع صنمية معايير القبيلة و تتناقض معها .و حين يكون المجتمع السوري مجتمع ذكور ، تكون الذكورة فيه قيمة معيارية ،أما الأنوثة فضعف و عيب و عار و غياب ، الأنثى في هذا المجتمع تتحول إلى مجرد مقر محتقر للذة و آلة بشرية للولادة ( للقبيلة) ، و عندما ترتقي فقط في سوية تعليمها و متوسط دخلها ترتقي فقط لتكون صورة و هامشا و شيء ، بهذا ينحسر المجتمع إلى نصفه المستبد و يعاني من تشويه وجودي في نصفه المغيب وتنحسر حظوظه في التقدم و الرفاه .  و حين يكون المجتمع السوري مجتمعا شموليا ليس للفرد أي مساحة فيه لذاته حيث لا تواجد لأي حقل ذاتي خارج عن هيمنة الجماعة ، و ليس من محدد لسلم القيم و نوعها إلا منظومة القيم العتيقة لتلك الجماعة و التي تطال معاييرها و تحديداتها كل شيء . وعندما لا يملك أن يكون الفرد لدى الجماعة إلا نسخة عن سواه ، و الخروج إلى ذاتيته و فرديته يجعله خارج على الجماعة كاسرا لصنمية معاييرها كافر و زنديق و مهرطق ، و على خلفية سحق المجتمع المنظم لذاته بقمعه للفردية فيه تتلاشى فرص الإبداع لديه و يتعمق ضياعه و اجتراره لنفسه . • و حين يكو ن المجتمع السوري مجتمعا ماضويا .يصبح المستقبل لديه ابتعادا عن الصفاء و الحق و النجاة و انغراسا في البعد عن منابع الحقيقة النهائية و الكاملة ويمسي التقدم فيه سيرا إلى الوراء و تضيع معه معالم الطريق إلى العصر .  و حين يكون المجتمع السوري مجتمعا لا يعرف العقلانية الحديثة منهجا للحياة و للتفاعل مع الواقع و الانخراط في مجرى التاريخ ، و لا تتحكم فيه إلا المعرفة الغيبية فهي الحاكمة لموقفه و هي الضابطة لعلاقاته و تفاعلاته مع العالم، يزداد عبر هذه المعرفة و من خلالها بؤس الحال السوري بؤسا و يتعمق تخلفه و ترديه و تتفاقم عزلته و هزيمته . • وحين تكون صورة الأزمة التي يعاني منها المجتمع السوري على هذا المستوى الكارثي من التعقد و التركيب و التفاقم ، و عندما يمنعه النظام من التعبير عن نفسه و أزماته من خلال حظر هذا النظام للسياسة و العمل السياسي و المدني فيه و حين يعيق حراكه و يقوض ميكانزمات و آليات التغيير الذاتي لديه ، فانه يخنق بداءات التنوير و التحرير البشري فيه و يعطل الجدلية الاجتماعية . لكل ذلك يكتسب النضال في مناهضة الاستبداد ضرورته القصوى و يصبح لمواجهته و التناقض معه بعدا تنويريا و تحريريا حقيقيا للوجود السوري ، و تصبح الأزمة الحلقة المغلقة التي يعانيها هذا الوجود ضرورية الكسر بدءا من نقطة النظام السياسي مع ضرورة كسرها من كل النقاط بشكل متزامن)).

هيئة تحرير جريدة الحداثة

في الحادي و العشرين من شهر يوليو تموز منهما ٢٠٢٥

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate