النهوض الأوروبي و الحداثة و إشكالياتها .
مثلت الحداثة الغربية المحور الأهم في النهضة في الغرب، باعتبارها أحد فتوحات العصر الجديد، بما أرسته من أسس منهجية للتقدم المعاصر، وجرى على إثرها مأسسة هذا التقدم وتقنينه، الذي يمثل عصرا جديدا، مغايرا للعصر الذي سبقه، ومفهوم الحداثة، جاء بعد ما سمي بعصر الأنوار، الذي تحدثنا عنه في المقالات السابقة، ولذلك مصطلح الحديث هو نقيض القديم، أو وفق المفهوم الغربي (الحداثة هي عكس القدامة)، أو أن كلمة الحداثة تلتقي مع فكرة «محدثات الأمور»، أو التي لم تكن قائمة، أما في تعريفات لسان العرب لابن منظور، فكلمة حدث مشتقة من الفعل الثلاثي حدث وحديث أو بمعنى: «وقع، وحدث الشيء ويحدث حدوثا فهو مٌحدث والمحدث هو جديد الأشياء». وهذا ما تراه المعاجم العربية في مفهوم كلمة حديث.
وأما ظهورها في الغرب، فقد تم استحداثها كحركة فكرية للنهضة الجديدة، وهذا هو مقصد هذا المفهوم وتجلياته الفكرية في الغرب، التي هي جزء من النظرة العامة تجاه كل ما صدر من رؤى وأفكار عن الكنيسة الغربية، أما التضمينات الفلسفية والكلامية، كما يذكر الدكتور سعيد شبار، فإن الأمر يكون: «من قبيل كون الحدوث عبارة عن وجود الشيء بعد عدمه. و(الحدوث الذاتي) كون الشيء مفتقرا في وجوده على غيره. و(الحدوث الزماني) هو كون الشيء مسبوقا بالعدم زمانيا. والأول أعم مطلقا من الثاني..». والغربيون سعوا في إبراز فكرة الحداثة، باعتبارها رؤية جديدة للعالم والكون والحياة، وفق المرحلة الفكرية للإنسان الغربي، حيث ارتبطت به منذ عصر الأنوار، وبعد الانقلاب على الكنيسة وتجريدها من صلاحياتها كما أشرنا إلى ذلك، وكانت السبب الذي ساهم في الحجر على الإبداع والاختراعات والتقدم عموما، وقد شكلت الحداثة الغربية، قطيعة كاملة مع القرون الوسطى، وما بعدها، والتي اعتبرت من العصور المظلمة في أوروبا الغربية قبل الأنوار.
ولذلك أصبح مفهوم الحداثة كما هو أحد مقومات عصر النهضة الجديد، الذي تخلص من أية وصايات سابقة عليه تحد من انطلاقته وفتوحاته الفكرية والعلمية كما قالوا، ولذلك اتخذت الحداثة مسارا ماديا في نظرتها الجديدة مع كل الأفكار التي سبقت عليه، ومتجاوزة لكل المعايير الأخلاقية التي كانت سائدة من المنظور الديني المسيحي، وهذه من الرؤى الخاطئة والسلبية كما يرى بعض الفلاسفة أيضا، التي صيغت فيها فكرة الحداثة، وقد لاقى مفهوم الحداثة انتقادات كبيرة من بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين، وهذا ما سيكون له حديث آخر، عند حديثنا عن فكرة: «بعد الحداثة»، ورؤية أصحاب هذا المفهوم الجديد «المابعدية»، لذلك فإن المشروع الحداثي الذي تبنّاه عصر الأنوار أُسس أيضا على العقل والعقلانية، كما تم في أواخر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وفي هذا المسار تعتمد الحداثة على ما يدركه العقل والعقلانية، وأن الإنسان هو محور الكون، وهو المرجع في كل التصوّرات الجديدة، والبعيدة عن الرؤى الفكرية والدينية السابقة عليه، ومنها المعايير الإبداعية التي تنحاز للفكر المادي وفق هذه المفاهيم الجديدة للحداثة.
ولا شك أن الحداثة انطلقت كثورة على ما هو سائد في ذلك العصر، واتخذت مقولات تهدم كل ما هو راسخ وثابت خاصة القيم الدينية، وتطالب بالتمرد عليها، باعتبارها من مخلفات العصور الماضية، ومنها كما يقول الكاتب مصطفى حسني، حتى التمرد على: «القوانين وطرق التعبير اللغوي والتقاليد الفنية المألوفة باعتبار الفن حركة مستمرة إلى الأمام، والتجاوز المستمر لكل ما يتم إنتاجه وتكريس منطق القطيعة. تقول موسوعة «يونيفارساليس»: (لقد أوجدت الحداثة في كل المستويات جمالية القطيعة (…) ، وذلك بتأثير من ظاهرة التقدم الاجتماعي (الذي شمل الثقافة وطرق العيش)، وبتأثير من الهدم المستمر للأشكال التقليدية والمألوفة كالأجناس الأدبية وقواعد الانسجام الموسيقي وقوانين التعبير والتصوير في الفنون التشكيلية (…) وبشكل أعم: هدم سلطة وشرعية الأنماط السابقة في العيش والجنس والمعاملات الاجتماعية)». وهذه من الإشكاليات التي أسهمت في إرباك التوازن الفكري في هذا العصر الجديد، لكن كتابات الفلاسفة الجدد الذين نقدوا مرحلة الحداثة القائمة على تحطيم ما هو قائم، مما جعل مسارها يتراجع عن الطريقة الحادة للقطيعة الفكرية التي تم دعمها من المؤسسين لفكر الأنوار، ولذلك المراجعات التي تتم في الغرب، سببها الحريات العامة التي جعلت النقد طريقا للإصلاح وتجديد الأفكار.
وهذا ما حدث للفلسفة الرأسمالية عندما راجت الفلسفات الاشتراكية كنقيض لحرية السوق دون كابح قانوني وأخلاقي، ثم جاءت لليبرالية الكلاسيكية المخففة في حركة السوق غير المقننة، وهو ما أسهم في تضييق الكثير من النظريات الفلسفية الرأسمالية المتوحشة، وذلك أن الغرب الرأسمالي/ الليبرالي، استفاد من مراجعاته السياسية والاقتصادية القائمة، واستطاع الصمود، والسبب في ذلك أن الحريات ووسيلة الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني، جعلت المراجعات طريقا لتلافي السلبيات، بعكس الفلسفة الماركسية، والحكم الشمولي وغياب التعددية السياسية، جعل النظرية الماركسية تتآكل من الداخل، حتى سقطت روسيا وتفككت دولها التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي، بل وسقوط حتى المعسكر الاشتراكي كله بعد ذلك، لكن الخطر القادم للغرب الرأسمالي، هو العودة الجديدة لـ(نيوليبرالية)، التي بدأت تسيطر بقوة على المفاصل الاقتصادية في الغرب الرأسمالي، وهذه لها حديث آخر.
إذن الحداثة في الغرب جاءت في سياق مرحلة نهضة كبيرة وتقدم في شتى المعارف الفكرية والعلمية والتقنية، وحققت نجاحا كبيرا بعد التخلف الكبير الذي حصل للقارة الأوروبية، بغض النظر عن نقد هذه المسارات والتحولات الجديدة، لكنها كانت قفزة كبيرة للعلوم العصرية، بكل تجلياتها المعرفية، لكن أخطاء التطبيق، أدت إلى قضايا لم تكن في حسابات دعاة الحداثة وأسسها، كما يقول د. طه عبدالرحمن، فقد: «دخلت عليه آفات مختلفة جعلته يبدو وكأنه محكوم بقانون عام قد نسميه بقانون «انقلاب المقصود إلى ضده»، ومقتضاه أن هذا التطبيق يتوصل في كثير من الحالات إلى نتائج مضادة للنتائج التي كان يتوخاها أصحابه أو يتوقعونها أو يراهنون عليها، حتى قيل: «إنه مسلسل لا يتحكم في ذاته» وقيل أيضا: «إنه يتسبب في الاستلاب»، وقيل كذلك: «إنه يولّد التقدم كما يولد التخلف وسوء التقدم». فعلى سبيل المثال، أراد الإنسان الحداثي أن يسود الطبيعة، فإذا به -كما يقول- هي التي تسوده وتفعل به ما يريد، ويتجلى ذلك في بروز أخطاء طبيعية مختلفة، منها أمراض غير مسبوقة وشبح الإشعاع النووي وانتشار أسلحة الدمار الشامل والانفجار السكاني وتلوث البيئة وانثقاب طبقة الأوزون».. وهذا ما حدا بالبعض في نقد الحداثة بصورة عنيفة، خاصة الفلاسفة: «مارتن هيدجر»، و«يورجن هابر ماس»، و«فريدريش نيتشه»، وغيرهم، منها الأفكار التفكيكية، والعدمية، والوجودية، ولذلك يرى بعض الباحثين المهتمين بالحداثة وما بعدها، من خلال توصيف وضعها الراهن، وإبراز سلبياتها وأزماتها كما يقول د.رضوان جودت زيادة، في كتابه (صدى الحداثة)، حيث يرى أن «الحداثة تعيش الآن في أزمة مركبة، فإذا كان منظرو ما بعد الحداثة يعلنون ((موت الحداثة))، فإن معارضيهم يرون أن الحداثة إنما تمر في أزمة وحسب، تستطيع تجاوزها والخروج منها، إذا فالجميع متفقون على أن الأزمة موجودة، لكنهم مختلفون في تقدير عمق هذه الأزمة، وفي تشخيص وتقديم الحلول للخروج منها، هذه الأزمة التي ينظر إليها «هنري لوفيفر» باعتبارها اتخذت مظهر العالمية كصورة خادعة من أجل تفخيمها الذاتي وستر أزماتها «الحداثة تكشف عن تناقضات وإبهامات وأزمات عديدة جائلة في كل الأرجاء»، هذه التناقضات تنتهي إلى مظهر عصي على الحل، فهي توصل الاستلاب إلى تمامه، وتضيف إلى الاستلابات القديمة إضافة تزداد ثقلًا يومًا بعد يوم».. لكن ماذا عن فلسفة ما بعد الحداثة؟ وما توجهاتها الفكرية؟ ومن هم روادها؟
لمحمد العليان