التراث كسؤال من أسئلة الحداثة

تفكر الحداثة في نفسها من خلال تفكيرها في التراث، أي من خلال التفكير فيما يفترض أنه نقيضها . هذه ليست معادلة ذهنية، افتراضية، وإنما هي واقعة تاريخية: في الثقافة العربية، كما في غيرها من الثقافات التي عاشت مشكلة الصلة بين الحداثة والتراث، الحاضر والماضي . يعني ذلك، ابتداءً، جملة أمور لا سبيل إلى الإشاحة بالنظر عنها:
أولها: أن الحداثة، أي حداثة، في ميدان الفكر والثقافة، لا تملك أن تقيس معدل انفصالها عما قبلها، والمسافة التي قطعتها في ذلك الانفصال، من دون عرض رصيدها في ميزان المقارنة مع ذلك الذي انفصلت عنه، أو حاولت، قصد تبيّن ذينك المعدل والمسافة . تبدو هذه القضية أبلغ وضوحاً وربما مشروعية في حالة الثقافة العربية، فهذه لا تملك أن تقرأ نفسها في مرآة الحداثة الفكرية الغربية، دائماً، ليس لأن الأخيرة تملك تفوقاً ما، أو تراكماً تاريخياً أبعد مدى، ولكن لأن مبدأ المقارنة يسقط، من الأساس، مبدأ تاريخية الحداثة ككل، وارتباط كل حداثة بسياقاتها الاجتماعية والفكرية والثقافية الخاصة، ويكرّس فكرة “نموذجية” الحداثة الغربية و”معياريتها” . صحيح أن الحداثة ظاهرة كونية شاملة المجتمعات والثقافات كافة، ولكن ثمة فارقاً بين الكونية والمركزية الغربية .
وثانيها: أن حواراً مستمراً، من مستويات مختلفة، يظل يجري بين منظومة الحداثة ومنظومة الأفكار الكلاسيكية التي انفصلت عنها . يحدث ذلك في الفكر الغربي، كما يحدث في فكرنا المعاصر، في بيئات الحداثيين، مازال الفكر الغربي يسائل الفلسفات ماقبل السقراطية، والمنظومتين الأفلاطونية والأرسطية، ويقرأ نقدياً “العهد القديم” (التوراة) و”العهد الجديد” (الأناجيل) والقديس أوغسطين، وأفكار الإصلاح الديني عند لوفر وكالفن، والرومانسية الألمانية للقرن الثامن عشر، وفلسفة “الحق الطبيعي” . . . الخ، وهي جميعها تنتمي إلى ماقبل الحداثة . نعم، يقرأ الغرب المعاصر هذا كله بعقل نقدي، ولكنه يستعيد ماضيه حتى وهو يمارس عليه هذا التمرين النقدي . إذا جاز ذلك لفكر الحداثة في الغرب، وهو الذي قطع أشواطاً تاريخية في الانفصال عن تراثه الماضي، فكيف لايجوز لفكر الحداثة عندنا: حيث منظومتها حديثة عهد بذلك الانفصال، حتى لا نقول إنه كان عندها، ومابرح، انفصالاً عسيراً؟
وثالثها أن خطاب الحداثة في الثقافة العربية المعاصرة، يصطدم بمسألة التراث لأسباب موضوعية تفرض نفسها عليه؛ فالتراث، في وجوهه كافة (الديني، والفقهي، والفكري، والأدبي، والقيمي . . .)، ليس معطى متحفياً من الماضي، في المجتمع العربي، وإنما هو حقيقة وجودية في يوميات الاجتماع والسياسة والثقافة والإيمان، ليس في المكن تجاهلها أو السكوت عنها . إنه يمارس سلطاناً حقيقياً على الأفكار والعلاقات والمؤسسات، ويوجه أفعال الأفراد والجماعات نحو هذه أو تلك من الخيارات . وربما كان من باب التنفيل في القول أن ننبه إلى أن معدل سلطانه، ومساحة ذلك السلطان في المجتمع والوعي، زادا على نحو ملحوظ في العقود الأخيرة من أزمة الدول والمجتمعات والثقافة في البلاد العربية، فارتفعت بزيادتهما الحاجة إلى إيلاء موضوع التراث مايستحقه من اهتمام علمي يناسب حجم حضور سلطته في الوعي والاجتماع . وبصرف النظر عما إذا كان حضور الموروث في الواقع الحاضر حضوراً ذاتياً ضمن نطاق حركة استمرارية تاريخية لم تنقطع، أم استحضاراً له واستدعاءً من قوى الحاضر نفسها، نتيجة عجز منها عن الجواب عن مشكلاتها، فإن مجرد حضوره بهذا السلطان الذي له، في النصوص وفي النفوس، يفرض النظر من قبل من يعبرون عن فكرة الحداثة، أي من يجدون في تجدد سلطانه عائقاً أمام فكرتهم ومشروعهم الثقافي، أو مزاحمة لدورهم الذي انتدبوا أنفسهم للنهوض به .
ورابعها أن خطاب الحداثة، عندنا، وجد نفسه – ومازال يجد نفسه – مصطدماً بنقيضه: خطاب الأصالة . وهذا الأخير، الذي أطل منذ القرن التاسع عشر في طبعات مختلفة، لم يتوقف عند التشنيع على فكرة الحداثة، والقدح فيها، واتهامها بالتأورب والتغربن وفقدانها المشروعية . غير أن الأسوأ من العداء على فكرة الحداثة، وحملتها، ترويجه المستمر لبضاعة “فكرية” لم تعد تشبع حاجة، لأنها – ببساطة شديدة – غير تاريخية ولا مطابقة للشرط الاجتماعي والمعرفي المعاصر . ولست أعني التراث بتلك البضاعة المنتهية الصلاحية، وإنما أعني القراءة التراثوية لذلك التراث، التي لا يجوز أن يقال في حقها إنها تضع نفسها في مستوى ذلك التراث معرفياً، بل هي تقع خلفه، لأن المضمون المعرفي للتراث كان – على الأقل – يناسب زمنه التاريخي الذي نشأ فيه، أما هي (القراءة) فلا تنتمي إلى زمانها . إن اصطدام خطاب الحداثة بإيديولوجيا الأصالة بدأ مبكراً، لكنه جرى من موقعين متقابلين، أما اليوم، بل منذ نصف قرن، فيجري في الموقع نفسه، أعني على الحلبة عينها: التراث . وعلى هذه الحلبة تصطرع قراءتان للتراث ورؤيتان إلى مدونته التاريخية، وإلى علاقتنا – نحن المعاصرين – بها . لقد وصفت الجدل بين القراءتين بعبارة الصراع على التراث، وقلت إنه صراع يجري – من الموقعين – من أجل الاستيلاء على هذا الرأسمال الرمزي، وإن هذا الاستيلاء المبتغى عند هذا وذاك من الفريقين، مشدود إلى استراتيجية أخرى غير معرفية هي استراتيجية السلطة، وتقوم على هذه قاعدة عمل مقتضاها أن الاستيلاء على التراث، واحتكار تأويله وتقديمه، هو أقصر طريق للاستيلاء على الحاضر، وتسويغ الحق في حيازة السلطة . ما وراء الصراع على التراث – وهو قطعاً صراع معرفي ومنهجي ورؤيوي – صراع مصالح واستراتيجيات وخيارات في السياسة والحياة . كانت الحداثة عنه بمبعد ومعزل، لكنها اليوم تدخله وتخوض فيه .
ما أغنانا عن الحاجة إلى القول إن دخول خطاب الحداثة، في الفكر والثقافة العربيين، معترك الصراع على التراث يمثل منعطفاً كبير الأهمية في تاريخه الحديث: الذي ما تعدى القرن ونصف القرن إلا قليلاً . كان، في الماضي القريب، مدموغاً – من خصومه – بتهمة الانغماس في نزعة عدمية في النظر إلى الماضي، كان الانطباع السائد أنه مدفوع في نظرته الحداثية إلى الأزمنة التاريخية والمجتمعية والثقافية نحو رؤية تطورانية داروينية من النوع الذي تحمل عليه، وترسخه في الوعي، فكرة التقدم، ولقد يكون الانطباع ذاك صحيحاً في بعض البيئات الثقافية للحداثيين، وفي بعض أزمنة الفكرة الحداثية في الوعي العربي، لكنه لم يكن صحيحاً في الإجمال، إن كان يصح في النادر من الأحوال، فلقد انطلق مسلسل الانهمام بالتراث، منذ القرن التاسع عشر، من مفكرين كانوا – في حسبان دعاة الأصالة – من “المتغربنين” و”المتفرنجة” من طراز بطرس البستاني، وفرح أنطون وجرجي زيدان . أما حين انتقل من الشام إلى مصر، انتقالاً دراسياً لا انتقالاً مكانياً، فأصبح أكثر نجاعة وأقدر على منافحة خصومه، لأن الخلفية العلمية لممثليه في مصر (طه حسين، أحمد أمين، الشيخ مصطفى عبدالرازق)، ناهيك بانتمائهم الإسلامي – لم يترك كبير فسحة لأولاء الخصوم للطعن فيه، أو اتهامه ب”التطفل” على تراث الإسلام .
هذه كانت سيرة الجيل النهضوي، منذ منتصف القرن التاسع عشر مع بطرس البستاني حتى منتصف القرن العشرين مع أحمد أمين ثم عبدالرحمن بدوي . ولم تختلف السيرة مع جيل الحداثة، منذ بداية ستينات القرن العشرين، منذ كتابات محسن مهدي وإحسان عباس ومحمد أركون الأولى حتى اليوم . لقد أعلن مثقفو الحداثة المعاصرون أنهم، مثل جيل الليبرالية العربية بين الحربين، يدركون قيمة العمل العلمي في ميدان دراسات التراث بوصفه الميدان الرئيسي كي يثبت خطاب الحداثة جدارته في الصيرورة خطاباً تاريخياً مطابقاً .

عبدالإله بلقزيز

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate