النسوية ما بعد الكولونيالية.. تفكيك الخطاب الاستشراقي حول «نساء على الهامش»

أطلق كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003م) «الاستشراق» حركة واسعة النطاق على صعيد قضايا «الجندر» و«النسوية ما بعد الكولونيالية»، حيث برزت أطروحات سعت إلى تفكيك الرؤى الاستعمارية والاستشراقية حول النساء في الدول المُستعمرَة سابقًا، ولا سيما تلك المرتبطة بالحريم الشرقي، والبطريركية، والإيروتيكية، وقمع الشرق للمرأة. تُعد الدراسات «النسوية ما بعد الكولونيالية» من الحقول المعرفية المعاصرة. تسعى هذه الدراسة إلى قراءة ملامح «الإنتاج الفكري النسوي ما بعد الكولونيالي»، من أجل مقاربة الترميزات الثقافية النمطية والإسقاطية حول الجندر في منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، المنتجة من قبل خطاب المُستعمِر والخطابات السياسية الغربية المعاصرة.

النسوية في الهند

حين بدأتُ بالكتابة تنبهت لمسألة أساسية: أن الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية نشطت بشكل رئيس في الهند وأميركا اللاتينية وباكستان واليابان، في حين بقيت في العالم العربي خجولة؛ فالأدبيات العربية الصادرة قليلة جدًّا، وهذا ما فرض تحديًا معرفيًّا كان عليّ تجاوزه، ليس بسبب ندرة الخلاصات العربية في ميدان النسوية ما بعد الكولونيالية فحسب، وإنما لإدراكي أن علينا كباحثين وباحثات أن نولي اهتمامًا أكبر لهذا النمط من الدراسات، لكوننا أولًا في العالم العربي خضعنا للاستعمار الذي سبقته وواكبته حركة استشراقية، حملت العديد من الصور النمطية عن النساء الشرقيات المسكونات بالغواية والسحر بالنسبة لبعض «الآخر» الغربي، «النبيل والعقلاني والمتعفف». وثانيًا، لأن روايات الرحّالة وكتب المستشرقين حملت مضامين كثيرة عن نساء الشرق –سلبية أو إيجابية- فنحن أمام مخزون علينا فهمه ودرسه لنتمكن من بلورة حركة معرفية معاكسة أو أصوات بديلة. وثالثًا، لأن الخطاب السياسي الغربي المعاصر –وكذلك جزء من الخطاب الثقافي المعاصر- يضع نفسه في موقع الناطق والمدافع عن المسلمات «المعنفات» و«الخاضعات» و«المقهورات» –تحديدًا في العالمين العربي والإسلامي- بسبب المجتمع والدين ويأخذ عدته الثقافية مما أنتجته أدبيات القرن التاسع عشر.

لا بد من توضيح مسألة أخرى وردت في عنوان الدراسة: «نساء الهامش»، فما الذي أقصده؟ احتلت ثنائية المركز/ الهامش موقع الصدارة في الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية؛ والمقصود بالهامش «أولئك النساء المقهورات من قبل منظومتين: المنظومة الاستعمارية التي صورتهن ضحايا النظام البطريركي والدين، والمنظومة الأبوية الشرقية التي مارست هي أيضًا تهميشًا للنساء، قد يكون أكثر ضراوة، وهذا ما استنتجته ولاحظته العديد من المشتغلات في هذا الحقل وتطرقت في دراستي إلى بعض مظاهره.

النسوية ما بعد الكولونيالية: الإرهاصات والوعي

يتناول مفهوم «ما بعد الكولونيالية» (Postcolonialism) آثار الاستعمار على الثقافات والمجتمعات. ولمصطلح ما بعد الكولونيالي -بحسب استخدام المؤرخين له في الأصل عقب الحرب العالمية الثانية في سياقات مثل «دولة ما بعد الكولونيالية»- معنى تاريخي تسلسلي واضح؛ إذ يشير إلى حقبة ما بعد الاستقلال. على أية حال فقد استخدم النقّاد الأدبيون هذا المصطلح بداية في أواخر السبعينيات لمناقشة الآثار الثقافية المتعددة للاستعمار. وعلى الرغم من أن دراسة قوة التمثيل المسيطرة داخل المجتمعات المستعمرة، انطلقت في أواخر السبعينيات من أعمال إدوارد سعيد مثل كتاب «الاستشراق»، وأفضت إلى تشكل ما عُرف لاحقًا باسم نظرية الخطاب الكولونيالي في أعمال نقّاد مثل هومي بابا (H. Bhabha) وغاياتري سبيفاك (G. Spivak)؛ فالمصطلح الفعلي «ما بعد الكولونيالي»، لم يوظف في تلك الدراسات الأولى حول قوة الخطاب الكولونيالي في تشكيل الرأي والسياسات في المستعمرات. على سبيل المثال استخدمت سبيفاك مصطلح ما بعد الكولونيالي لأول مرة في مجموعة المقابلات الشخصية والكتابات المجمعة، التي نُشرت عام 1990م تحت عنوان «الناقد ما بعد الكولونيالي». وعلى الرغم من أن دراسة تأثيرات التمثيل الكولونيالي كانت محورية في أعمال هؤلاء النقاد، فإن مصطلح «ما بعد الكولونيالي» في حد ذاته استخدم في البداية للإشارة إلى أشكال التفاعل الثقافي داخل المجتمعات الكولونيالية في الدوائر الأدبية.

لقد أفضى كتاب إدوارد سعيد إلى توليد الدراسات النسوية والنقاشات المتعلقة بها في دراسات الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى تذهب أبعد من وراء هذا الحقل. تلاحظ ليلى أبو لغد، الباحثة الفلسطينية، وأستاذة الأنثروبولوجيا والدراسات النسوية في جامعة كولومبيا، أن ثمة أربعة طرق كان فيها لعمل سعيد تأثير في هذا الشأن.

أولًا– فتح الاستشراق الإمكان للآخرين حتى يذهبوا أبعد من سعيد في استكشاف مناطق الجندر والجنسانية في خطاب الشرق نفسه.

ثانيًا: قدم الكاتب تسويغًا قويًّا لظهور الأبحاث التاريخية والأنثروبولوجية المزدهرة التي زعمت أنها تتجاوز القوالب النمطية للمرأة المسلمة، أو الشرق أوسطية والعلاقات الجندرية بشكل عام.

ثالثًا: أسهم التعافي التاريخي للنسوية في الشرق الأوسط بدوره، والناجم عن هذه الوفرة الجديدة في البحث، في التحريض على إعادة بحث هذه القضية المركزية في الاستشراق: سياسة شرق/ غرب.

وأخيرًا عمل موقف سعيد على تزويد الدراسات الجندرية والنقاشات النسوية في الشرق الأوسط ببعض المشكلات الشائكة بشكل خاص، حين ألقى الضوء على الطرق الغربية التي يجري بها تحديد مكان النقد النسوي في السياق الكوني. يمكن تعريف خطاب ما بعد الكولونيالية بأنه «خطاب نقدي ينحو إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، وإلى إعادة النظر في تاريخ آداب المستعمرات التي واجهت الاستعمار الأوربي. إن الهدف الأول لخطاب ما بعد الإمبريالية بجهوده الكبيرة هو إعادة كتابة تاريخ الحضارة الاستعمارية من وجهة نظر من استُعمِروا (…) إن نظرية ما بعد الكولونيالية، هي في الحقيقة قراءة للفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية.

أوضح لنا إدوارد سعيد المنظومات الاستشراقية المتنوعة عن الشرق التي حملها المستشرقون والرحّالون والأكاديميون الغربيون، فشخّص «كيف كان الشرق صورة مرآة عكسية لــ«الآخر»، أي الغرب المتفوق. لقد كانت مقولته بأن التصوير لشرق أحادي ومتسق يؤدي إلى صور جوهرية ونمطية، يصنف بها الشرق بصفته متخلفًا وغير قابل للتغيير، وغير عقلاني ومهددًا ويجب السيطرة عليه جنسيًّا، وهي مقولة مثيرة للنقاش والتحدي. فلم يسبق أن قُدِّمت خيالات الحريم والحمام التركي، وهي مجازات رئيسة في الخيال الأوربي، كرموز جنسية نمطية للشرق المتخيل، بصورة أبرز من تلك التي قدمها في الاستشراق. نجد أن سعيدًا قد عرض لموضوع الخيالات الذكورية الغربية: فقد كان على الشرق الأنثوي والضعيف أن يتعرض لغزو الغرب القوي والمسيطر جنسيًّا. فعلينا أن ننسب إليه لفت أنظارنا إلى فكرة الاستعمار القائم على مفاهيم الجندر، ولكن من غير المؤكد أنه يجب النظر إلى عمل سعيد على أنه يهتم أساسًا بمسائل الجندر في حد ذاتها، أو أن عمله يركز على قصد الصورة وبنائها. ومع ذلك، فإن مقولته الأساسية قد أعطت بالتأكيد دفعة للدراسات الأنثروبولوجية عن الحياة الجنسية والتاريخية، وأعادت التفكير في العلاقات المتشابكة للسيادة بين الشرق والغرب، حيث أدت نظريته إلى صقل المقاربات النسوية وتطوير الدراسات ما بعد الكولونيالية. فقد كان أول من ربط الخيالات الجنسية للرحّالة بنزعة الهروب إلى الشرق. ونتج عن هذا الوعي إنتاج فكري مهم استعار منهجه من ميشال فوكو (Michel Foucault) (1926- 1984م) وتنظيره حول السلطة، وهدف إلى تفكيك الصور النمطية في البحوث التي تتناول المجتمعات الإسلامية. وقد واصل كثيرون ما بدأه سعيد من جهود، مثل ماري لويز برات، وبيتر هيوم، وهومي بابا، وغاياتري سبيفاك، ورنا قباني وغيرهم. فمنذ ظهور كتاب الاستشراق ظهرت كمية مدهشة من الأعمال في شتى مجالات الإنسانيات. وركز الإنتاج الفكري ما بعد سعيد على التحيزات والترميزات الثقافية النمطية والافتراضات المسبقة حول الجندر في الحقبة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وقد تم هذا على مستويين: من خلال التحليل النصي وفي الدراسات الأنثروبولوجية.

نجد في كتاب «خيالات كولونيالية: نحو قراءة نسوية للاستشراق» (Colonial Fantasies: Towards a Feminist Reading of Orientalism) لأستاذة الدراسات الثقافية وعلم الاجتماع (المتخصصة في دراسات ما بعد الكولونيالية) ميدة يغينوغلو (Meyda Yeğenoğlu) دراسة غنية ومدهشة للتمثيل الثقافي للغرب لنفسه من خلال الآخر، فهي تبحث في الاستشراق وتعبيره عن الاختلافات الجنسية والثقافية، كما تحلِّل كلًّا من فئتي الجندر والاستشراق من أجل إعادة صوغ الخطاب الاستشراقي. وتركز على مفهومي الخيال والرغبة، وتربطهما بالبناء التاريخي المحدد وبالعملية الجماعية، فهي تبحث بالتحديد في الطريقة التي نُظر بها إلى الحجاب وممارسة التحجب والحريم في الخيال الغربي، بداية من ملاحظات فرانز فانون حول الحجاب في الجزائر. فقد كان ينظر إلى الشرق باعتباره تجسيدًا للحسية، وفُهِم بمفردات أنثوية. أما الحريم فكان يمثل العالم الغامض للشرق، والحيز الخفي والمحظور الخاص بالنساء. وتتساءل الكاتبة حول كتابات الرحَّالات الغربيات من النساء، وكيف أن كتاباتهن تدعم كتابات الرجال وتكملها بـــ«المعرفة من الداخل».

أما ليلى أبو لغد فقد طرحت في كتابها (Remaking Women) «إعادة تشكيل النساء» مسائل الحداثة وبناء الدولة القومية وما بعد الكولونيالية في علاقتها بتاريخ النسوية في الشرق الأوسط. لن نتطرق إلى كتاب ليلى أبو لغد في ورقتنا هذه، إنما سندرس مقالها «هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسية في النسبية الثقافية وحواشيها»، حيث تقدم فيه مقاربة نقدية للمبررات التي رفعت لتبرير التدخل الأميركي في أفغانستان بعنوان: «تحرير أو (إنقاذ) المرأة الأفغانية». من المهم الإشارة إلى أن المقال تطور إلى كتاب يحمل العنوان نفسه: (Do Muslim Women Need Saving) صدر عام 2013م عن (Harvard University Press).

يعتبر «أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ» للباحثة السورية رنا قباني، من ضمن أبرز الأدبيات التي تندرج في الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية، وسوف ندرس بعض الأفكار التي عالجتها في هذه الدراسة. إن حقل الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية في العالم العربي، ما زال في مراحله الجنينية قياسًا إلى الدراسات في الهند وأميركا اللاتينية واليابان. وهنا من المفيد الإشارة إلى الكتاب الذي حررته وقدمت له أستاذة دراسات العالم العربي المعاصر في جامعة مانشستر هدى الصدة تحت عنوان: «أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث»، وهو كتاب يحتوي على مقالات مترجمة لمفكرات مهتمات بالدراسات النسوية، وبدراسات التابع في العالم الثالث الذي يشهد على الاهتمام بهذا الحقل المعرفي.

النسوية ما بعد الكلونيالية بالجزائر

في كتابه «الحريم الاستعماري» (The Colonial Harem) (1986) قام الناقد الأدبي الجزائري مالك علولة (1937- 2015م) بدراسة لبطاقات البريد التي أنتجها الفرنسيون في أثناء الاحتلال الفرنسي، محللًا كيف جرى تأطير واختزال شخصية المرأة في صورة، وبذلك استخدم مفهوم رولان بارت في رؤيته للكاميرا كفاعل اختزالي للشخصية، وأضاف له رؤيته الخاصة في كيفية التطويع التاريخي لصورة الجزائري والعربي، وتكييف الصورة بما يناسب العين «الشريرة» التي تريد تصميم الشرق حسب رؤيتها الخاصة. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: «ليس هناك توهم بلا جنس، ومن خلال هذا الاستشراق يتم إعداد منتج يشمل الجيد والسيئ –والسيئ إجمالًا– هذا المنتج يحمل صورة متكاملة تمثل هاجسًا واحدًا هو الحريم (Harem). يؤول علولة بعض أوجه استخدام هذه الصور في إعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية مرة أخرى، بجعل المحتل والناظر في موقع الذات الفاعلة أو الناظرة للجزائريات، وهن في موقع الموضوع أو المفعول به، عن طريق إعدادهن لوقفة الصورة ووضعهن في إطار محدد، ومن ثم خلق صورة معينة لهن. يرى علولة أن بطاقات المعايدة التي تصور الجزائريات تعمل من خلال آلية فعل ثلاثية: علم الأعراق، الذي يدعي تمثيل الحقيقة، أيديولوجية استعمارية لا تبوح بعلاقة القهر الموجودة بين الفرنسيين والجزائريين، والوهم الذي ينطوي على خيالات مكبوتة لدى الرجال الفرنسيين عن النساء الجزائريات.

لريتا فرج .

الفيصل-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate